لحظة ميلاد هي بداية لحظة تحوّل في مفهوم معنى الوجود الرّسالي للإنسان، إنسان المبادئ والمروءة والأخلاق، إنسان الفضيلة، وإنسان التصدّي لكلّ إهتزازات الذات.
ظلام كثيف ينسدل على الخيام المتناثرة هنا وهناك، بين الشعاب، في الأودية وفي الهضاب الجرداء، والحرّ يمتزج بالصحاري الممتدة في عمق الظمأ.
لا شيء غير الرمال المنتفضة من حين لآخر تحت رياح السموم وتنتصب الصحراء، تنتصب الصحراء لتفرض سلطتها على الطبيعة، على الإنسان وعلى النبات.
هي الصحراء تغطّي وجه الطبيعة وتتماوج ذليق.
وبين الرمال المضطربة، والنجوم المترنّحة في السماء وعلى ضوء قمر خجول تسبح في هذه الصحراء القاسية أوتاد خيام قبائل مترامية في عمق التاريخ، مستيقظة على صهيل الخيل، على نقرات الدفّ والمزامير والناس هنا غارقون في أنهار اللذّة والتشبث بالشهوات، بين سلطة القبيلة وإنتصاب الذات.
القوافل تتوافد من كل المسارب لتعرض البضائع والمرأة سلعة تباع وتشترى في المزاد.
هو زمن اللامعنى، زمن السلطة، زمن الإستعباد، زمن السطوة، زمن يطحن الجياع والفقراء.
ويطول السبات العميق ليطوي بين تجاعيده مدينة مكة، مكّة المنقوشة في جدران التاريخ البعيد تلفّها القبائل الممتدّة في عمق الظلام.
لاشيء غير الفراغ وأنين العبيد، وقسوة أوامر الأسياد، والأرض هناك تتألم من وحشية غارات القبائل على بعضها، إنّه الزمن العبثي الذي يضبطه الفراغ والتيه، ويتحكّم فيه منطق القوّة وتقننه سطوة الشهوة والإنحدار والأوثان.
هناك في الورى البعيد، تتربّع قبيلة مكّة تختزن في وجدانها شرف الإشراف على الكعبة، والحياة هناك هي الصيد وركوب الصحراء، هي الشهامة والكبرياء، هي الفروسية وحماية الجوار، هي الرفعة والتشبّث بأخلاق الصحراء، هي الشعر، هي الجواري، هي السطوة، هي الإستعباد ودفن البنات أحياء، هي الجاه، هي النسب، هي الكهانة والكهنوت، هي الليالي الخمرية وإستباحة المحرّمات، هي الأصنام والأوثان، هي الغارات والحداء، هي اللذّة وحب الذات، هو الفراغ يفترس العقول والأرواح، والشعوذة والأصنام تستعمر القلوب والأذهان والناس غرقى تائهون في العيش الحرام.
وبمولد سيد الخلق وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب عليه أفضل سلام يبدأ الزمن الراقي، زمن القيمة زمن المبادئ وزمن الإنسان، فاليوم يولد مؤسّس الأخوّة الصّادقة «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه» يظهر للكون في هذا اليوم مخلص الناس من شهادة الباطل والزور«الساكت عن الحق شيطان أخرس» في هذا اليوم ينبلج للحياة أستاذ الحكمة ومعلم الأدب «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» في هذا اليوم تجازى الإنسانية بميلاد أعظم خبير في تربية الأبناء «الطفل يولد كالورقة البيضاء أبواه يهودانه وينصرانه أو يسلمانه» في هذا اليوم تشرق على الكون أشعّة النور والمعرفة «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد» في هذا اليوم يولد للوجود أكبر الزعماء وأفضل المدافعين عن المرأة «خياركم، خياركم لنسائه» في هذا اليوم يولد الخير والفعل والإيمان والتقوى والتآخي والعدل والإنصاف والإحسان وأسمى معاني إنسانية الإنسان، في هذا اليوم يولد رسول المحبّة والسلام رسول الحرية وحسن التعبير.
وتنطلق الجارية في فرحة عاصفة سيدي، سيّدي، مولاي عبد المطلب أبشر لقد رزقت غلاماً مشرق الوجه أجمل ما في الوجود، فإستيقظت الفرحة الصارخة في وجدان الجدّ المنهك بجرح السنين، وإهتزّ من مكانه يشكر السماء ويكون هو أيضاً في مستوى العطاء فيقول لمن أخبرته بقدوم أفضل مولود، إبشري يا جارية الخبر السعيد من الآن أنت حرّة طليقة وما عدت أمة مملوكة وتكون أول بشائر الحرية، وتخليص المرأة من مهانة ذلّ العبودية، لحظة ميلاد نبيّ الحرية نبيّ المبادئ نبي الفضائل والقيمة الفردية.
ينبثق محمد للوجود فتهوي عروش الطغيان وتتصدّع بقدومه أوتاد كسرى وتنتكس الأصنام، وترتجّ مصاحف الكهنة ومروّجي الأوهام، إنها بداية البدايات بداية أخلاق الرأفة وحسن العفو والرحمة بالعباد {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} بداية مفاهيم التسامح والتواضع {لو كنت فضّا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
لحظة ميلاد هي بداية لحظة تحوّل في مفهوم معنى الوجود الرّسالي للإنسان، إنسان المبادئ والمروءة والأخلاق، إنسان الفضيلة، وإنسان التصدّي لكلّ إهتزازات الذات.
الكاتب: الطاهر العبيدي.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.